أيّتها الشمس:
ينتابني شعور غريب وأنا أرنو إلى ضوءك من بين أجفاني الممزّقة ,فأنهض متبسّماً من مرقدي وعيناي غائمتان مسهدتان , ودجى النعاس يطفئ نيران نشاطي ,والشوق للكرى يحاول عبثاً أن يعيد الكرّة من جديد نحو غفوةٍ تُشتهى .
ويظل هذا النزاع قائماً بين روحي وجوارحي حتى تتلألأ عيناي بنورك الذهبي الذي يتسلل إلى حجرتي باثّاً فيها ألواناً من الظلال الهادئة التي تنعش قلبي وتشحذ همّتي وتحثٌّ حيلي على الهبوب في وجه عواصف النجوم.
وتتسع عيناي , ومشابك أهدابي تنفضّ شيئاً فشيئاً .
ويتعاظم بريق مآقيّ أكثر فأكثر .
أرفع يدي ساتراً عيني من وهج نورك الوضّاء ومستعيداً ذكريات أحلامي المنصرمة ,فتصطبغ أصابعي بشفق أحمر يحفّ بجوانبها فتغدو كشموع متوهّجة .
فأنسى أحلامي ويعود تخبّطي في حبائل أشعّتك من جديد ,وتكبر حيرتي ,فجمالك فتّان ,وخدودك الحمراء التي تخطف الأبصار أخّاذة .
أتلقّى أشعتك ,فأشعر بقشعريرة دفء تعتريني.
وتمتزج أشعّتك بسكونٍ شاعريّ , يخلو إلّا من همس بلبل وترنيم عندليب ومن صمت نفسي الذي يملأ الكون كما نورك .
أراقب النوار المتيقّظة تارةً , فأرى شعاعك يعانقها بحنان ثم يقبّلها فتهتز منتشية.
ربّما لأنها حيية , وكأنها تقول بصمت:كم نحبك !!
والأرض أرقبها تارةً أخرى...يالزهوّها بينما أشعّتك تمسّ سطحها برقة ,فتهيم هي الأخرى بكِ .
يالك من ماكرة أيتها البعيدة ,استطعت أن تتلاعبي بعواطفي ,وتضرمي نيران خواطري دون إذن مني .
وأعظِم ببهائك حتى عندما تغضبين !
فتتربعين على عرشك في كبد السماء ,ولظى لهبك يطال الأرض ومن عليها .
فتتوارى الطيور قاصدةً الأشجار الوارقة ,وتتستّر الأزهار مبتغية الفيء ,وتحذو حذوها الكائنات هرباً من كبة لهبك المستعرة.
يا ترى ...هل تغدرين بجورك هذا بمن أحبك ؟!
ما أشبهك يا شميسة الكون بالفتيات الحسناوات المخادعات ! جميلة و خائنة !!
ثم بعد ذلك تخبو لسعات شعاعاتك الحارّة.
وكأنك قد ندمت بسبب قسوتك على الأفئدة التي تتصبب عرقاً جمّاً , وأشفقت عليها مودّعة إيّاها , ومجررة خلفك أضواءك البهيّة الساحرة إلى ماوراء السهول والتلال والبحار ...
ويظهر الشفق الأحمر في أعالي الأفق منذراً بدنوّ موعد الوداع.
فأتذكر قول الشاعر في تلك اللحظة حينما نبس قائلاً:
يا للـــغروب وما بـه من عبـــرة للمســــتهام وعبــــرة للرائي
والشمس في شفق يسيل نضاره فوق العقيق على ذراً سوداء
مرّت خلال غمــــــــامتين تحدّرا وتقطّـــرت كالدمعة الحمراء
فتشخص الأبصار كئيبةً لنهارٍ آخر توارى .
ثمّ يبدأ الغسق بارتداء الكون وشاح الظلام الأسود حزناً على الفراق بين الأرض وعشيقتها.
وينتهي غلس الليل بإشراقتك النضرة أيتها الذكاء على صفحة كوكبنا لتحييه من سباته ,وتقهقرين أثواب ظلامه بابتسامتك اللطيفة التي أنعم الآن النظر برؤيتها من بين أصابعي الوهّاجة